كلام في ريادة الأعمال

ريادة الأعمال كمنافسة احترافية

مقدمة

عندما نتحدث عن الرياضة، يخطر بالبال القوة واللياقة، ولكن بالواقع أن الإطار الأشمل للرياضة هو المنافسة الاحترافية، وخاصة عندما ننظر إلى رياضات المحركات وبعض الرياضات الصاعدة مثل الرياضات الإلكترونية و سباقات المسيرات (الدرونز) و التي لا تتطلب نظرياً أي قوة أو لياقة جسدية. لا وجود حقيقي للفرد في  المنافسات الرياضية، فكر في أكثر الرياضات الفردية (الدراجات، التنس ) وستجد أنها فردية أمام الشاشة فقط، خلف هذا المنافس مدرب ومحلل ومعالج وإخصائي تغذية… بل و اتحاد رياضي بأكمله يدعمه.

هذا الدرس سبق لريادة الأعمال أن تعلمته، فمن غير الوارد أبدا أن يحصل ريادي الأعمال على دعم مجدي قبل أن يكون فريقه، وفي مدونة ريادة الأعمال من منظور موسيقي ناقشت الحاجة لدعم تكوين الفرق الريادية الصحيحة، ستناقش هذه المدونة عن لماذا تحتاج لأن تكون هذه الفرق تنافسية كالفرق الرياضية، بدءً بدرجة الانضباط و إدارة الأهداف المشتركة والأهداف الشخصية و العلاقة مع المال و الذهنية المطلوبة للعمل.

الانضباط

إن كان هناك كلمة رديفة تستطيع وصف الرياضة الاحترافية بكافة أشكالها فستكون: الانضباط، فالرياضة الاحترافية هي عبارة عن تصوير لما يمكن أن يحدثه الانضباط الصارم  في الفرد ثم الفريق: العمل رغم الملل و الالتزام رغم عدم الاقتناع و تفويت الرغبة الملحة لمصلحة رغبة لاحقة.

لا يفترض أن تحتاج أي جهة دعم لأكثر من دليل على انضباطية الفريق للموافقة على دعمه، كل ماهو غير ذلك قابل للتعديل لاحقا، قد تنقص الفريق المهارة أو الخبرة أو العلاقات أو التمويل .. ولكن الحقيقة أن هذه جميعا يمكن “دعم” الفريق بها، ما لا تستطيع أن تغيره به هو أن تجعله أكثر جدية وانضباطاً.

الجدية في العمل لا تعنى أن على أعضاء الفريق ترك وظائفهم وبيوتهم من بدايات المشروع، ولكن تحديد ساعات يومية/أسبوعية/شهرية للعمل على المشروع ومن ثم الالتزام بذلك، الانضباط في تطوير المنتج يعني أن الفريق يركز جهودة في منتج محدد في سوق محدد حتى ينجح أو يستنفذ الخيارات المتاحة، التوسع أو التشعب أو التنقل من فكرة أو سوق لآخر ليست دليل لمرونة الفريق بل ضعف انضباطه. الانضباط المهني يعني أن أعضاء الفريق يلتزمون بما اتفق عليه الأغلبية وإن كان ضد اقتناعهم الشخصي طالما هو في مصلحة المشروع.

الهدف المشترك

الأهداف الرئيسية في الرياضة بسيطة وواضحة – وربما هذا هو سبب قوتها –  كل فريق يرغب بالفوز باللقب الأكبر، ولكن شدة هذه الرغبة ودرجة الاستعداد للتضحية و اختلاف الامكانيات هي مايفرق كل فريق عن آخر، في المقابل، الأمر ليس بذلك الوضوح في ريادة الأعمال: هل يرغب الريادي بأن يحقق مصدر دخل ثابت؟ أم بالنمو الساحق والسيطرة على السوق، أم بأن تكون شركته أكثر ربحية، هل يرغب بأن يكوّن لنفسنه سمعة وتأثير؟…الخ ومايزيد الأمر صعوبة هو احتمالية اختلاف أهداف الفريق الواحد أو حتى التعارض بين الأهداف والأغراض من العمل في شركة ناشئة.

يروي بن هونت ديفيز في كتابه : هل سيجعل القارب يسير بشكل أسرع، كيف استخدم فريقه هذا السؤال كمرجع لاتخاذ أي قرار يخص فريقهم، من  طريقة التدريب و تجهيز المعدات  إلى تحديد جدول المنافسات، فعندما يحتاج الفريق إلى أن يقرر قرارا ما كالاستثمار في أدوات رياضية مكلفة أو المشاركة في منافسة ما فالمعيار الذي تحدد عليه الإجابة هو إن كان فعل ذلك سيساعد الفريق على التجديف بشكل أسرع أم لا وبالتالي تحقيق نتائج أفضل في منافساته الكبرى، التفكير بهذا الشكل نقل مستوى الفريق من الخروج من تصفيات بطولة العالم في ١٩٩٨ إلى الفائز بالميدالية الذهبية في أولمبياد ٢٠٠٠.

 وجود معيار محدد مثل هذا يجعل من السهل على الفريق تجاوز أي تفضيلات شخصية أو قرارات عاطفية لأحد أعضاءه، وهذا ماتجتاجه الفرق الناشئة، فكيف تستطيع الوصول إلى معيار بسيط وواضح كهذا؟

الهدف المشترك = استراجية التخارج

الطريقة التي يستطيع بها الفريق الناشىء تحديد هدف مشترك هو عن طريق الاتفاق على استراتجية التخارج من بداية المشروع،  وهذا سيفيد الفريق من ناحيتين أساسيتين:

الناحية الأولى هي فهم وإدراك حوافز البدء في المشروع من الأساس، سواء من ناحية أفراد الفريق أو الفريق ككل،  وهذا يعطي إضاحات مهمة في وقت حساس: هل لدى أعضاء الفريق فهم وتقبل لحوافز بعضهم البعض؟ هل تتوافق هذه الحوافز بالأساس؟ بداية المشروع هو أسلم وقت لمعرفة كل هذا

الناحية الثانية هي الاتفاق على معيار محدد ييستطيع الفريق بناء قرارته عليه بعيدا عن أي تفضيلات شخصية أو عواطف متعلقة، تماما كما تمكن فريق القوارب من  فعله، مجرد معرفة الوجهة المقصودة يجعل الغرض من العمل على المشروع الناشيء أقل عشوائية وتخبط وأكثر تعني وسعي للوصول لنقطة النهاية المتفق عليها.

الغرض من تحديد استراتجية التخارج هو صنع آلية لتنفيذ المشروع والتوجه نحو غاية محددة ومرسومة ومشتركة بين أعضاء الفريق،  لا يوجد لدي أدنى شك بأن بهذه الغاية ستتغير (أو تُحدث) مع نمو المشروع بسبب متغيرات المنتج والسوق، هذا نمو طبيعي وهذه التغيرات هامة وفعالة لأنها مبنية على مرئيات وحقائق واقعية، وهذا لا يقلل من أهمية تحديد غاية من البداية، لأن الهدف منها بالأساس هو تأسيس مصلحة الفريق و  التوافق بين مصلحة أعضائه بعيدا عن أي أراء وعواطف شخصية.

المال ليس كل شيء

يحكي فلم منيبول قصة فريق أوكلاند للبسبول، وكيف تمكن هذا الفريق الفقير – بالمقارنة – من المنافسة مع عمالقة البيسبول، بمعدل نصف مليون دولار عن كل فوز، مقارنة بمعدل ٣ مليون دولار لفريق تاكسس رينجرز  – والذي يصنف من الفرق الغنية في البيسبول – في المواسم ٢٠٠٠- ٢٠٠٣.

ماذا من الممكن أن يقدم هذا الفلم لريادة الأعمال؟ تذكيرهم بأحد أهم الدروس في الإدارة الاستراتجية: عندما تحاول أن تنافس من هو أغنى ًمنك بنفس طريقته – أي صرف المال على أفضل اللاعبين- فحتما ستخسر! درس بسيط ولكن قصة منيبول أكدت مرارا وتكراراً تجاهل مؤسسة البيسبول لهذه الحقيقة و اقتناعها الوحيد بأن صرف المال هو الحل.

تُبنى المشاريع الناشئة على صنع الفرص الصغيرة أو تعظيم الاحتمالات القليلة، لذا لا تستطيع الربحية قياس مدى التقدم والنجاح في هذه المراحل المبكرة، و لذا كان قياس تقدم النمو هو المقايس المعتمد.

في الشكل الحالي لريادة الأعمال هناك نظرة للاستثمار وكأنه مكوّن النجاة، أوكسجين ريادة الأعمال، تبدأ الفرق باستثمار مبدئي، لتتنقل في جولات استثمارية هجائية، بشكل أو آخر تحول الحصول على الاستثمار التالي هو سبب العمل كريادي أعمال والطريقة الوحيدة لتبرير هذا كله هو الدخول في دوامة نمو لا نهائية، تغطية التكاليف والوصول للربحية والتأكد من نسب عوائد الاستثمار … وغيرها من المفاهيم الأساسية للأعمال تحولت لمصطلحات غريبة!

المال ليس كل شيء، بل الربحية هي كل شيء، قد يكون مبرراً وضع استثناء لهذه القاعدة في السنوات الأولى للمشروع ولكن يجب على الريادي أن لا ينسى أبدا بأنه يبني شركة تجارية، و الهدف الأساسي لأي شركة هو الوصول إلي الاستقرار المالي من خلال تحقيق الأرباح ومن ثم إعادة استثمار جزء منها، وإن رغبنا بإعادة صياغة هذه العبارة بالمفهوم الرياضي فستكون كالتالي: لا يهم ماذا صرفت، المهم كيف كانت نتائج فريقك… نعم لا تهم نتائج جولاتك الاستثمارية، المهم ماهي نتائج أعمالك؟ هل وصلت للربحية؟ إذا لم، فمتى؟ وكيف؟

المال ليس كل شيء، لماذا؟  لإن بناء شركة تقدم منتج ناجح يتطلب أكثر من المال  يتطلب عمل وصبر و بناء مرحلي لفريق كفوء ومتناغم، فريق ملتزم يعمل للوصول لهدف مشترك. المال أداة مهمة في هذه الرحلة ولكنها ليست الأداة الوحيدة المتاحة أو المطلوبة، واحدة من مجموعة أدوات، المستثمرون الجريئون يعرفون هذه الحقيقة وهم من يملك المال، فهل حان الوقت لريادي الأعمال لإعادة التفكير؟

الذهنية التنافسية

“حلمي بأن أكون بطل أولمبي…بأن أفوز بميدالية أولمبية ذهبية” هي حلم ربما يتشارك به كل الرياضيون، ولكن المشكلة أن الأولمبيات تقام مرة واحدة كل ٤ سنوات، وهذا يعني أن الفرص قليلة ومتباعدة، وأن حصل أي ظرف ولم يتمكن الرياضي من المشاركة في البطولة، فعليه أن يتنظر لأربع سنوات آخرى!

الانسان الطبيعي قد يفقد الأمل ويبدأ بالبحث عن شيء آخر يقوم به، ولكن ليس البطل الأولمبي؟ هذا البطل، انسان خارق من فصيل نادر؟… أو ربما هو انسان عادي يفكر وينظر للأمر كله بطريقة مختلفة عن غيره؟

قصر النظر

!الاستراتجية التي يستخدمها الرياضيون بسيطة ولكنها فعالة: إدراك الهدف النهائي، التركيز في اللحظة

نعم، كثير من الرياضيين يحلمون ويحفزون أنفسهم باللقب الأولمبي… ولكن أن يكون أول مايفكرون به كل يوم؟ هذا فقط في عالم الإعلانات، الرياضي يركز على المنافسة القادمة، وعندما تحين هذه المنافسة يركز في أول جولة، وفي الجولة يركز في أول شوط/مرحلة… حتى يتجاوزها للتي تليها وهكذا، لن تجد رياضي جاد يتحدث عن المباراة النهائية قبل أن يصل إليها (خطأ منتخب انجلترا في كأس العالم ٢٠١٨!) قد يتحدث عن طموحاته أو غرضه من المشاركه بشكل عام.

يستطيع الفريق الريادي أن يتجاوز الكثير من الضعوط من خلال اتباع هذه الاستراتجية، تقرر ماهو هدفها الكبير (عودة إلى استراتجية التخارج)، تحدد طريق (أو الطرق الممكنة) الوصول ثم تنغمس/ تركز بأهم أقرب هدف.

إن كان هدف فريقك هو أن يكون من أفضل ٥ مقدمين لمنتج ما في سوق محدد، وحدد طريقة الوصول ١) بناء المنتج ٢ ) تجربته على ٥ عملاء، أحدهم عميل ذا ثقل في السوق ٣) تحسين المنتج ٤) بناء موثوقية ٥) الحصول على تمويل  ٦) توسيع الفريق ٧) زيادة حصة السوق. فكيف سيستفيد فريقك عندما يضغط على نفسه بالعمل على الخطوة ٦ (توسيع الفريق) وهم لم يحصل على التمويل المطلوب بعد!؟

هذا لا يعني أن على الفريق أن يهمل تقيم أداءه ويمضي في خطته الأصلية بأي حال، بالعكس تماما، ولكن لابد أن يفرق جيدا بين وقت التخطيط و وقت التنفيذ و وقت التقييم والمراجعة ولا يخلط بينهم.

ذهنية الفوز

هناك سر معروف في الرياضة الاحترافية: المهارة لا تكفي دون ذهنية قوية، ساعات التدريب وحدها لا تكفي، لا بد أن تتعلم أن تؤدي في الملعب – فكر في ركلات الترجيح – مع صياح الجماهير، مع معرفة أن أي خطأ قد يحمله تكاليف مصيرية، فكر بها كأن تقوم بعملك اليومي تحت مجهر ومشرط مديرك ومدراءه وزملائك وعائلتك وكل شخص عرفته أو غرباء لم تعرفهم، كلهم مستعددون لتغير وجهة نظرهم عنك في لحظة.. أو بشكل مختصر: العمل تحت الضغط باستمرار. في أغلب البطولات المنقولة، لن ترى إلا رياضييين أقوياء ذهنياً، من لا يملك الذهنية المطلوبة قد تمت فلترته مسبقاً، لكنك سترى الاختلاف بقوة الذهنية من فترة لآخرى لنفس اللاعب، وستلاحظ لأي درجة هي مهمة.

عندما تحصل المفاجئة ويتغلب الفريق/اللاعب الضعيف على الفريق/اللاعب القوي يبدأ المحللون بمحاولة تفسير هذا عن طريق تحليل اللحظات الحاسمة، كيف حصلت ومن هو المتسبب (لأي من الفريقين) ولكن هذا النظرة تتجاوز حقيقة مهمة: لو لم يدخل هذا الفريق الضعيف بإيمان كامل بأنه قادر على الفوز على هذا الفريق القوي، لو لم تكن هناك ثقة كاملة بقدراته وبخطته، فبكل بساطة لن تكون هناك أي لحظات حاسمة..

لأن تكون للفريق الريادي أي فرصة للنجاح، فعليه أن يؤمن بشكل كامل بمشروعه، يؤمن بمنتجه، يؤمن بقدرته، يؤمن بأنه قادر على تحقيق هدفه الأكبر..ذهنية الفوز هذه هي التي تجعل الفريق في حالة استعداد كامل وقت اللحظات الحاسمة؛ تعريف مفاجئ، اتصال غير متوقع، تزكية غير مخططه .. وغيره

ربما يختصر هذا كله وصف هنري فورد عندما قال: “سواء كنت تظن أنك تستطيع أو تظن أنك لا تستطيع فأنت على حق”

خاتمة

نتفليكس هي أحد أبرز الشركات التي أدخلت مفهوم المنافسة الاحترافية في بيئة عملها، في العرض الشهير لثقافتها، تذكر الشركة: “نحن فريق ولسنا عائلة، نحن مثل فريق منافسة احترافية وليس فريق أطفال ترفيهي” و “قادة نيتفلكس يوظفون، يطورون، ويفصلون بذكاء، ليكون لدينا نجم في كل دور”

كل لاعب محترف يعرف أن وقته بالمنافسة أو بالفريق محدود لأسباب كثيرة، وحتما سيغادر هذا الفريق يوما ما، نتفليكس تخبر موظفيها هذه المعلومة: يوما ما لن نحتاج لك، وحينها سنفصلك؛ هذه رؤية مختلفة تماما للوضع السائد في توظيف الشركات، ولكن نتفليكس تعود لتؤكد أن التشبيه بالفرق الرياضية ليس مثالياً.. لإن الرياضات التنافسية دائما ماتحتوي على عدد ثابت من الأدوار، عكس الفرق الناشئة؛ حيث يستطيع الفرد إثبات قيمته.. حينما تحققت البيئة المناسبة.

رأيان على “ريادة الأعمال كمنافسة احترافية

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.